حينما أوشكت الرحلة على الإقلاع من مطار جدة، باتجاه مطار القاهرة، كان الركاب كل قد اتخذ مكانه، ولم يبق غيري. ظللت واقفاً رغم أزيز الطائرة وجلبة الصوت الخارجي من موظفي الساحة. وقفت أستحث (المضيف) على أن يخلو مقعدي من (السيدة) التي احتلته، بينما الأرقام تحدد المقاعد للركاب، فدنا منها ليقول لها على مسمع مني، وبعد أن نظر إلى (كرت صعود الطائرة): هذا مقعد الراكب الذي يقف هناك - وأشار بيده ناحيتي - فيجب إخلاؤه. نظرت إليه ونهرته قائلة بصوت نسائي متعال: أنا جلست وخلاص! وعندما أفهمها أن مقعدي إلى جوار النافذة وليس الممر، قالت: مش مهم! مصرةً على البقاء به.
وبلطف المضيف وحسن أدائه لعمله، قبلت تأسفه على (مضض)، واستبدل مكاني بالمقعد الذي خلفها مباشرة؛ لأن مقعدها الأصل الذي إلى جوارها ظل شاغراً بعد أن وضعت عليه ما علق بيدها من أكياس مستلزمات رحلتها.
ومثل هذا التصرف (الأهوج) ليس من آداب ولياقة السفر، ولكنها العادة (السيئة) حينما يتجاهل البعض شعور وأمزجة الآخرين، ولا يحترم تعليمات الشركة الناقلة؛ فهي - أعني التي استحلت مكاني - غير آبهة بالتعليمات، وتصرفها لا هو بالمعقول ولا بالمقبول.
جلست والغيظ يطفح على محياي؛ لأنني معتاد حينما أود السفر أن أطلب (مقعدي) إلى جوار النافذة؛ لكي أطل من خلالها لأرى معالم المدينة المسافر إليها، ومن جهة أخرى أواري وجهي للفضاء إذا أخذتني (غفلة) من النوم من تعب الرحلة إذا كانت الرحلة طويلة؛ فأفسدت عليَّ الأخت الفاضلة متعة النافذة.
وما هذا بالمهم بالنسبة إليها - كما قالت -، ولكن ما هو بالأهم بالنسبة إليَّ وأغاظني أكثر وبقيت متوتراً، وفي أثناء توزيع الصحف، مرت بها مصادفة إحدى صديقاتها التي لم تشاهدها منذ فترة طويلة، وهذا مما يبدو لي من حفاوة الاستقبال بها.. مباركة هذه الحفاوة بدعوتها للجلوس إلى جانبها؛ فصديقتها كانت أعقل منها، حينما سألتها: هل هذا المقعد لأحد؟ قالت التي استحلت (مكاني)، وحرارة الاشتياق ما زالت قائمة: اجلسي، لا عليك من أحد؟! وجلست الاثنتان، وبدأتا الكلام الذي أشبه (بفيلم) مصري ممل. كنت أنصت وأحلل (السيناريو) للفيلم؛ لعلني أستفيد (فربَّ ضارة نافعة)، ووجدتني في ضبابية قاتمة لرداءة الإخراج وخيبة الإنتاج؛ فالصور والمشاهد كلها شواهد بألا جديد هناك؛ فالحديث عن الأولاد، والأزواج، والخادمات، والمسلسلات، وآخر مستجدات الأزياء والمكياج ورحلات الصيف، والأعياد، وهموم التدريس ومشاكسة الطالبات لمعلماتهن وغيرها وغيرها!!
وكأن الاثنتين بصوتهما المسموع غير المقموع (ذاتياً)، كأنهما في مباراة كرة قدم مَن منهما التي تستطيع بمعسول الكلام أن تسجل نقاطاً أكثر لصالحها بأنها هي العارفة الأكثر برغبات الرجل في المأكل والملبس، وتربية الأولاد و.. و.. إلخ.
كان ركاب الدرجة الأولى قد أبدوا تذمرهم (للمضيف) من صوتهما العالي الذي يشوش على البعض ويفقدهم متعة القراءة، ولكن ماذا باستطاعة (المضيف) أن يفعل لهما وقد جرب مع إحداهما، وهي التي استحلت (مقعدي)، ولم ينفع معها الكلام بل (أخافته)؛ فهو يعرف أن نظام شركته الناقلة يقول: إن الراكب على حق، وما عليك إلا الصبر. نظام (مجحف) بحق الموظف المضيف؟!
أعود إلى شلة الأنس اللتين لم تفتر ألسنتهما من الحكي طوال الرحلة.
وحينما همَّت الطائرة بالنزول بمطار القاهرة.. نُزعت (الطرح والعبي)، ووضعت داخل الأكياس التي أُعدت للاحتفاظ بأدوات (السيرك التمثيلي).
وظهرت الوجوه المجعدة ذات المساحيق الفاقعة، والصدور النافرة، وبدأتا الاعتناء والتدقيق بالملابس، وبانت البناطيل بالقدود المياسة، والمعاصم المذهبة التي تنمُّ عن الغنى والبحبوحة بالعيش الرغد؛ فالتظاهر بمظاهر الذهب من أساور وقلائد وهواتف غالية الثمن لأكثر من واحد والحقائب المنتقاة بعناية والأحذية المتناسقة معها.. كل هذا الترف (بالزبرقة) ربما يكون وبالاً عليهما بلفت النظر، ويسبب لهما السلب والنهب من (الحرامية والنصابين) وغيرهم؛ فلماذا كل هذا؟ فإن أرتال الذهب والأصباغ لا تزيدهما وقاراً ولا حسناً وجمالاً، وها هو شاعرنا وشاغل الدنيا يقول:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
يا شاعرنا الكبير، لا أحد منا يعترض أو يحق له الاعتراض، على أصباغهما وأزيائهما وبهرجتهما، لكنني أعترض على الإسفاف بالكلام إلى حد التطاول.. ألم تطاول إحداهما بكلامها على المضيف حينما هزأته وهو الغلبان؟! وهذا ليس من حسن السلوك!!.. ويدخل على الخط شاعر منافح عن عدم الغلو بالكلام وترك ما للخلق للخالق فيقول:
لا تلتفت بالخلق راحل ونزال
ما لك على ذرية آدم مطاليب
دنياك يالمخلوق يظهر بها أشكال
توريك صفحات وتكشف لك الغيب
ورغم وصية الشاعر بعدم الالتفات، دفعني فضولي إلى أن ألتفت عند طابور الجوازات بمطار القاهرة، وإذا بالتي استحلت مقعدي تتجاوزنا مخترقة الطابور متخطية الذي أمامي وهو دوره وأنا الذي يليه، ثم تتقدم لضابط الجوازات لتقدم له جوازها وزميلتها، وهي تنتظر إذن الدخول كانت تدندن بدون حياء: (زحمة يا دنيا زحمة وما فيهاش رحمة). ابتسم ضابط الجوازات بسخرية وناولها الجوازين، وتقدم الذي أمامي ومشى، وأبديت امتعاضي بتخطيها دوري للضابط الذي تطلع إليَّ و(طنش). وفي مكتب تأجير السيارات سبقتني وأخذت السيارة (التماتيك) التي أرغبها؛ فهي مريحة بالنسبة إليَّ، وكانت هذه ثالثة (الأثافي) من الضربات التي وجهتها إليَّ: (المقعد) و(الجوازات) و(السيارة). قلت في نفسي: هل نحن في زمن (العدوان الثلاثي)، مع اختلاف الأسباب والمبررات والتصرفات؟ ووجدتني أردد مقولة (غوار الطوشة) في مسرحيته الجميلة الضاحكة (غربة) وهو يهز سيفه الخشبي بالهواء في محاولة منه للأخذ بثأره من خصمه: (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى.. حتى يراق على جوانبه الدم).
ولكن نحن ليس - ولله الحمد - في زمن (الثارات) البغيضة التي يأنفها المجتمع، ولكن مثل هذه التصرفات تجلب (الهم) و(الغم)، وتجعل المرء يفقد اتزانه بزلة لسانه، لولا الحكمة وضبط النفس والصبر على المكاره؛ فلا خاب من صبر على المكاره والبلايا.. كفانا الله وإياكم من كل شر ومكروه.
وبلطف المضيف وحسن أدائه لعمله، قبلت تأسفه على (مضض)، واستبدل مكاني بالمقعد الذي خلفها مباشرة؛ لأن مقعدها الأصل الذي إلى جوارها ظل شاغراً بعد أن وضعت عليه ما علق بيدها من أكياس مستلزمات رحلتها.
ومثل هذا التصرف (الأهوج) ليس من آداب ولياقة السفر، ولكنها العادة (السيئة) حينما يتجاهل البعض شعور وأمزجة الآخرين، ولا يحترم تعليمات الشركة الناقلة؛ فهي - أعني التي استحلت مكاني - غير آبهة بالتعليمات، وتصرفها لا هو بالمعقول ولا بالمقبول.
جلست والغيظ يطفح على محياي؛ لأنني معتاد حينما أود السفر أن أطلب (مقعدي) إلى جوار النافذة؛ لكي أطل من خلالها لأرى معالم المدينة المسافر إليها، ومن جهة أخرى أواري وجهي للفضاء إذا أخذتني (غفلة) من النوم من تعب الرحلة إذا كانت الرحلة طويلة؛ فأفسدت عليَّ الأخت الفاضلة متعة النافذة.
وما هذا بالمهم بالنسبة إليها - كما قالت -، ولكن ما هو بالأهم بالنسبة إليَّ وأغاظني أكثر وبقيت متوتراً، وفي أثناء توزيع الصحف، مرت بها مصادفة إحدى صديقاتها التي لم تشاهدها منذ فترة طويلة، وهذا مما يبدو لي من حفاوة الاستقبال بها.. مباركة هذه الحفاوة بدعوتها للجلوس إلى جانبها؛ فصديقتها كانت أعقل منها، حينما سألتها: هل هذا المقعد لأحد؟ قالت التي استحلت (مكاني)، وحرارة الاشتياق ما زالت قائمة: اجلسي، لا عليك من أحد؟! وجلست الاثنتان، وبدأتا الكلام الذي أشبه (بفيلم) مصري ممل. كنت أنصت وأحلل (السيناريو) للفيلم؛ لعلني أستفيد (فربَّ ضارة نافعة)، ووجدتني في ضبابية قاتمة لرداءة الإخراج وخيبة الإنتاج؛ فالصور والمشاهد كلها شواهد بألا جديد هناك؛ فالحديث عن الأولاد، والأزواج، والخادمات، والمسلسلات، وآخر مستجدات الأزياء والمكياج ورحلات الصيف، والأعياد، وهموم التدريس ومشاكسة الطالبات لمعلماتهن وغيرها وغيرها!!
وكأن الاثنتين بصوتهما المسموع غير المقموع (ذاتياً)، كأنهما في مباراة كرة قدم مَن منهما التي تستطيع بمعسول الكلام أن تسجل نقاطاً أكثر لصالحها بأنها هي العارفة الأكثر برغبات الرجل في المأكل والملبس، وتربية الأولاد و.. و.. إلخ.
كان ركاب الدرجة الأولى قد أبدوا تذمرهم (للمضيف) من صوتهما العالي الذي يشوش على البعض ويفقدهم متعة القراءة، ولكن ماذا باستطاعة (المضيف) أن يفعل لهما وقد جرب مع إحداهما، وهي التي استحلت (مقعدي)، ولم ينفع معها الكلام بل (أخافته)؛ فهو يعرف أن نظام شركته الناقلة يقول: إن الراكب على حق، وما عليك إلا الصبر. نظام (مجحف) بحق الموظف المضيف؟!
أعود إلى شلة الأنس اللتين لم تفتر ألسنتهما من الحكي طوال الرحلة.
وحينما همَّت الطائرة بالنزول بمطار القاهرة.. نُزعت (الطرح والعبي)، ووضعت داخل الأكياس التي أُعدت للاحتفاظ بأدوات (السيرك التمثيلي).
وظهرت الوجوه المجعدة ذات المساحيق الفاقعة، والصدور النافرة، وبدأتا الاعتناء والتدقيق بالملابس، وبانت البناطيل بالقدود المياسة، والمعاصم المذهبة التي تنمُّ عن الغنى والبحبوحة بالعيش الرغد؛ فالتظاهر بمظاهر الذهب من أساور وقلائد وهواتف غالية الثمن لأكثر من واحد والحقائب المنتقاة بعناية والأحذية المتناسقة معها.. كل هذا الترف (بالزبرقة) ربما يكون وبالاً عليهما بلفت النظر، ويسبب لهما السلب والنهب من (الحرامية والنصابين) وغيرهم؛ فلماذا كل هذا؟ فإن أرتال الذهب والأصباغ لا تزيدهما وقاراً ولا حسناً وجمالاً، وها هو شاعرنا وشاغل الدنيا يقول:
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب
ما أوجه الحضر المستحسنات به
كأوجه البدويات الرعابيب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
يا شاعرنا الكبير، لا أحد منا يعترض أو يحق له الاعتراض، على أصباغهما وأزيائهما وبهرجتهما، لكنني أعترض على الإسفاف بالكلام إلى حد التطاول.. ألم تطاول إحداهما بكلامها على المضيف حينما هزأته وهو الغلبان؟! وهذا ليس من حسن السلوك!!.. ويدخل على الخط شاعر منافح عن عدم الغلو بالكلام وترك ما للخلق للخالق فيقول:
لا تلتفت بالخلق راحل ونزال
ما لك على ذرية آدم مطاليب
دنياك يالمخلوق يظهر بها أشكال
توريك صفحات وتكشف لك الغيب
ورغم وصية الشاعر بعدم الالتفات، دفعني فضولي إلى أن ألتفت عند طابور الجوازات بمطار القاهرة، وإذا بالتي استحلت مقعدي تتجاوزنا مخترقة الطابور متخطية الذي أمامي وهو دوره وأنا الذي يليه، ثم تتقدم لضابط الجوازات لتقدم له جوازها وزميلتها، وهي تنتظر إذن الدخول كانت تدندن بدون حياء: (زحمة يا دنيا زحمة وما فيهاش رحمة). ابتسم ضابط الجوازات بسخرية وناولها الجوازين، وتقدم الذي أمامي ومشى، وأبديت امتعاضي بتخطيها دوري للضابط الذي تطلع إليَّ و(طنش). وفي مكتب تأجير السيارات سبقتني وأخذت السيارة (التماتيك) التي أرغبها؛ فهي مريحة بالنسبة إليَّ، وكانت هذه ثالثة (الأثافي) من الضربات التي وجهتها إليَّ: (المقعد) و(الجوازات) و(السيارة). قلت في نفسي: هل نحن في زمن (العدوان الثلاثي)، مع اختلاف الأسباب والمبررات والتصرفات؟ ووجدتني أردد مقولة (غوار الطوشة) في مسرحيته الجميلة الضاحكة (غربة) وهو يهز سيفه الخشبي بالهواء في محاولة منه للأخذ بثأره من خصمه: (لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى.. حتى يراق على جوانبه الدم).
ولكن نحن ليس - ولله الحمد - في زمن (الثارات) البغيضة التي يأنفها المجتمع، ولكن مثل هذه التصرفات تجلب (الهم) و(الغم)، وتجعل المرء يفقد اتزانه بزلة لسانه، لولا الحكمة وضبط النفس والصبر على المكاره؛ فلا خاب من صبر على المكاره والبلايا.. كفانا الله وإياكم من كل شر ومكروه.